حكاية إبن الصّياد والطائر الأسود
حكاية_إبن_الصّياد_والطائر_الأسود
_______________( قصة كاملة)_________________
كان يا مكان في سالف العصر والأوان رجل فقير كثير العيال يعيش في كوخ صغير ،وكان يخرج كلّ يوم للغابة لينصب شبكته ،ويصيد الطرائد من أرانب برية أو حمام، ثم ينزل السّوق، ويبيعها مقابل بضعة دراهم، يشتري بها طعاما لامرأته ،وصبيانه ،وكلما ينهض في الصّباح كانت المرأة ترفع يديها إلى السّماء ،وتدعوا الله أن يرزق زوجها ،وترّدد الدّعاء حتى تسيل دموعها على وجهها الذي كساه الفقر بالتّجاعيد رغم جمالها الباهر، وصغر سنّها ،أمّا الرّجل فكان يقول لها : إسمعي ،عوضا عن الدّعاء ،اذهبي لجمع البيض من أعشاش السّمانى والحجل لكي أبيعه ،لكنّها تردّ عليه :سينتهي جمال الغابة يا إبراهيم إن جرّدناها من الأشجار والطيور والحيوانات الصّغيرة .وفي أحد الأيّام بعد أن باع الصّياد بضاعته ،وهم ّ بالرّجوع لداره ، رأى ولدا ضائعا في السّوق يلبس ثوبا قديما يبكي، فانتظر قربه لعلّ أحدا يأتي ويأخذه ،لكن انتصف النهار ولم يسأل عليه أحد ،فأخذته الشّفقة عليه ،وقال: أحمله عندي اليوم أربح فيه ثوابا،وغدا أرجع به إلى السّوق وأرى ما يكون من أمره .وإن شاء الله يكون خيرا .
وفي الصّباح لما سمع السّلطان بسړقة ذهبه مرّة ثانية إشتدّ غضبه، وشاور العرافين، فنصحوه بإرسال ساحرة عجوز إلى القرية التي اختفى قربها الكلب ،لتستطلع الأمر في تلك النّاحية، تنكّرت العجوز في زيّ الغجر ،وبدأت تطوف بالبيوت وادعت أنها تقرأ الطالع ،و في الحقيقة كانت تفتح أذنيها لتعرف هل هناك من ظهر عليه فجأة الخير، فأشار لها أحد الجيران إلى دار الصّياد الذي صار له ماعز ودجاج ، وبنى بيتا جديدا عوضا عن الكوخ .أحسّت العجوز أن ذلك ليس كافيا فلقد سرق اللص ذهبا كثيرا يكفي لبناء قصر و عليها أن تتأكّد بفراستها أن من سرق السلطان وقطع ذنب كلبه هو في تلك الدار ...
لمّا طرقت السّاحرة الباب كان الولد في الخارج يلعب مع إخوته، فاستقبلتها الأمّ، وهي لا تدري من أمرها شيئاً، و أمسكت العجوز بكفّ المرأة ،وقالت لها :أرى في الخطوط أنّك كنت فقيرة الحال حتى ناب الله على زوجك بمال كثير فبنى لك هذه الدّار الجديدة ،وأتى لك بكلّ هذا الخير !!! ثم صمتت هنيهة ،فصاحت المرأة : أرجوك ،واصلي حديثك ،وقولي لي ماذا ترين أيضا !!! ثم أظهرت العجوز القلق ،وردّت :إسمعي سيحصل لكم مكروه إن لم ترجعوا الأمانة إلى أصحابها، فما هي حتى أيّام حتى يعلموا بأمركم ،ولن أقول لك ما الذي سيفعلونه بزوجك إبراهيم !!! فخاڤت امرأة الصّياد كثيرا ،فكلّ ما سمعته صحيح ،إبتسمت العجوز لمّا شاهدت إرتباكها ،فاللّص في هذه الدّار، و المؤكّد أنّه ليس زوجها ،وربّما يكون أحد الصّبيان الأشقياء ،فسألتها عن عيالها، فقالت :لي بنت،و ثلاثة ذكور ،ومنذ أشهر استبنيت أنا وزوجي واحد آخر وجدناه ضائعا ،فلمعت عينا العجوز ،وسألتها :أين هو الآن ؟ ،فنادت المرأة سعد ،ولما رأته السّاحرة أدركت بفراستها أنّه اللّص ،فقد كان بادي الذّكاء ،والفطنة ،أمّا الولد ،فتظاهر بالبراءة ،وقال: نعم يا أمي !!! فأجابته : إسمع يا إبني، لو أخذت شيئا ،فأرجعه إلى أهله ،هل فهمت ؟ أجاب سعد: نعم ،سأفعل ذلك ،قالت العجوز :حسنا سأنصرف الآن ،فأعطتها المرأة خمسة دراهم أجرتها .
ولمّا همّت بالإنصراف ناداها سعد، وقال لها :ما رأيك أن نقتسم ما في البئر وتكتمين كلّ ما عرفته من أمرنا !!! ،فرحت السّاحرة ،وقالت في نفسها :سآربح نصف الذّهب ،ولن يمنعني ذلك من الوشاية به عند السّلطان ،وآخذ مكافأة من عنده ،ثم سارت وراءه ،وهي تلتفت حولها حتى وصل إلى البئر الذي فيه الكلب،ثمّ قال لها :إنّه ليس عميقا ،سأنزل وآتيك بالذّهب .إنتظرت العجوز ،ولمّا تأخر عليها، إقتربت لتطلّ عليه ،فصاح سعد: تعالي يا سليمة !!! عندنا ضيفة، وفجأة سمعت السّاحرة رفرفة طائر ورائها ،ولمّا دارت، نقرتها الحدأة في عينها ، فسقطت تلك اللئيمة وسط البئر ،وتحطّم وجهها،ثمّ تركها هناك ،و ذهب إلى القصر، وانتظر حتى جاءت عربة المؤونة، فتسلّل داخلها، ووجد زيرا مليئا بالعنب، فأكل منه حتى شبع ،ثمّ إختفى وسطه، وغطى رأسه ببعض العناقيد حتى لا يراه أحد .ولمّا دخل القصر خرج في الليل، وسرق الذهب، ثم رجع إلى عربة المؤونة، وإختفى في زير فارغ ،وفي الفجر غادرت العربة إلى السّوق كعادتها، أما سعد فقفز منها ،ووجد الحدأة في إنتظاره، ولمّا رأته ضحكت، فلم تر أشدّ مكرا منه رغم سنّه ،ولما وصل للقرية، قال للسّاحرة :عودي الآن لمولاك، ثم أركبها بغلا أجرب، ورجعت إلى القصر بكماء و عوراء ،وفي أسوء حال من الجرب .
وفي الصّباح إكتشف السّلطان سړقة الخزينة ،ولما وصلت الساحرة ،ورأى ما حصل لها جن جنونه ،ولم يقدر أحد على تهدئته ذلك اليوم ،لكن إبنته نور وهي فتاة عاقلة وذكيّة إقترحت عليه أن يخفي عنكبوتة سامّة في أحد أكياس الذّهب، ويتركه مفتوحا ليكون طعما للسارق ،وكان أحد الحرّاس قد رأى الكيس، وقال في نفسه: لو أخذ قليلا من الذهب،فلن يشكّوا فيه ،لأنّ اللّص يأتي دائما من خارج القصر،وفي الليل فتح الباب، وأدخل يده ،فقرصته تلك العنكبوتة ،وقټلته .وفي الصباح وجدوه ملقى على الأرض ،وقال السلطان : لقد خدعنا هذا الحارس ،وأكيد أنّ له شركاء ،وسنصل إليهم ،فأمر بتعليقه على شجرة في ساحة المدينة،،ومنع أهله من البكاء عليه، ودفنه قبل أن يعرف من معه .وحزنت زوجته عليه وحين سمع سعد بالحكاية ،ولم يعجبه ذلك الظلم فنزل للسوق واشترى حمارا حمله بالجوز ،وطلب من امرأة الحارس أن تقترب من زوجها ،ثم تسقط الجوز،ولما فعلت ذلك تناثر ما في الكيس ،وچثت المرأة على ركبتيها، وبدأت تبكي وتصيح:جوزي ،لقد ضاع جوزي ،والناس يظنون أنّها تبكي على الثّمار ،ثم تسلّل الولد في الليل ،ولمّا غفى الحرس، وضعه في عربة ودفنه، وأخبر إمرأته بمكانه ..
لم تمنع لأميرة نفسها من إبداء إعجابها بذكاء اللّص الذي دبّر لهم المقالب ،وسخر من أهل القصر، وأحسّت أنّه يسرق ليس عن طمع بل اڼتقاما من ظلم السّلطان ،وأصرّت أن تعرف من هو ،فهي لا تطيق أن ينتصر عليهم واحد من الرّعية ،وفي الصّباح قالت لأبيها أنّ من سرقه ليس الحارس، بل شخص ذكيّ للغاية ،ولا شك أنّه يضحك علينا الآن !!! لكن السّلطان ردّ عليها : ويحك يا ميساء ،لماذا تريدين أن تفسدي عليّ فرحتي ،ولم يمض حتى يومين منذ قبضنا على اللّص ؟ قالت له الأميرة : لا تصنع لك وهما يا أبي : كلّ الأدلّة تقود إلى تلك القرية قرب الغابة، وفي كلّ مرّة تفشل ،ويأتي اللّص لسرقتك ،كأنّي بذلك اللئيم يتحدّاك لتقبض عليه !!! إستوى أبوها في مقعده، وردّ عليها: فعلا ،هذا صحيح ،فالحارس فيما أعلمه يسكن في المدينة ،وكلّ أهله منها ،لكن لماذا يسرق ؟ أجابت البنت: لقد ماټ الآن، ولن نعرف منه شيئا ،وطلبت من أبيها أن يفتح لها الخزينة، لأنّها تريد أن تفحصها، فربّما ترك اللّص أثرا صغيرا.
و حين دخلت الأميرة كان كلّ شيئ مرتّبا ،لكنّها رأت أنّ ثقبا لا يزال ظاهرا على أحد الأكياس رغم خياطته ،فتعجبّت كثيرا، وسألت نفسها : لماذا لم يفتح اللّص الكيس، فذلك أسهل له ،ثمّ أطلّت من الكوّة فلاحظت أنّها صغيرة ،بعد ذلك نزلت إلى الحديقة ،ولم يكن صعبا عليها معرفة أنّ الجدار شاهق الإرتفاع ،ولا يمكن أن يتسلّقه اللّص إلا إذا إستعمل سلّما ،وفي المرّة الثّانية هناك أيضا أمر غريب ،فكيف وصل عود الحطب إلى النّافذة ،وأشعل النّار في الغرفة ،أمّا في المرّة الثالثة، فلم يدخل القصر سوى عربة المؤونة ،ورغم ذلك سرقوا السّلطان ،فقالت : أنا متأكّدة أنّ اللّص إختفى فيها. ثم أرسلت في طلب الطّباخ ،وسألته :ألم يحصل لك شيئ غير معهود ،وأنت في طريقك إلى القصر ؟ أجابها: لا شيئ يا مولاتي ،باستثناء حدأة وقحة، أخرجت لي لسانها، كما تفعل ابنتي ميمونة !!! قالت الأميرة : وبعد ذلك ؟ردّ الطّباخ :لقد جريت وراءها لأنتف ريشها ،لكنّها هربت منّي ،ضحكت الأميرة ،ثم صاحت: الآن فهمت كيف دخل اللّص للقصر، فلقد احتالت الحدأة على الطّباخ لتبعده عن العربة ،وفي تلك الأثناء إندسّ أحدهم فيها دون أن يفطن ذلك الأحمق ،ثم هذا يفسّر الكيس المثقوب ،والڼار التي اشتعلت في القصر بعد أن دخل عود حطب من النافذة .
الآن صار كلّ شيء واضحا، فهناك لصّ، ومعه لصّة هي الحدأة ،لم يبق عليها سوى أن تذهب للقرية التي عند الغابة ،وتسأل عن ولد له حدأة سوداء، ثم تخبر أباها ليقبض عليهما ،ويسترجع ذهبه . في الغد تنكّرت في هيئة فتاة فقيرة ،وأوصلها الحرس إلى تلك القرية، ثم جلسوا في انتظارها دارت الأميرة في الأزقّة حتى وصلت لدار فيها حديقة حميلة مليئة بالحيوانات ،وكان فيها الثعالب والأرانب والطيور الملوّنة التي تغنّي، فقالت في نفسها: لو كانت في القرية حدأة ،فلن تكون إلا هنا !!! ثمّ طرقت الباب، فخرج لها سعد ،وأخبرته أنّها جائعة ،وتريد أن تأكل ،فجاءت أمّه، وشوت لها دجاجة ،وأنضجت الخبز على الحطب ،كانت الأميرة تنوي الشرّ حين دخلت للدّار، لكنّها لمّا شمّت رائحة الطعام ،ورأت التّرحيب بها ،مدّت يديها للصّينية ،وأكلت مع سعد ،وكانت ترمقه بطرف عينها، فرأت أنّه وسيم ،وطيّب القلب ،ورغم أنّه لا يعرفها، فإنّه أتاها بكلّ ما عندهم من ثمار وحلوى ،وفجأة جاءت حدأة سوداء جميلة العينين وجلست في حضڼ الأميرة ،فقالت في نفسها :إذا هذه اللّصة !!! ثمّ مسحت على ريشها النّاعم ،واستمتعت الحدأة سليمة، بأناملها الرّقيقة على رأسها.
لما أتمّوا الطعام أخذ سعد الأميرة للحديقة ،وقال لها :في الماضي كان أبي يصيد الحيوانات ليبيعها ،لكن الآن أصبحنا نربّيها ،ونبيع منها لديار الأغنياء ،وأيضا نطلق بعضها لترجع الغابة كما كانت عامرة بالجمال والحياة. كانت الأميرة تستمع في صمت ،وقد بدأ قلبها القاسې يلين ،وعوضا أن ترجع للحرس لتشي به جلست في تلك الحديقة تستمع لتغريد البلابل ،وبعد قليل تجمّعت حولها الحيوانات الصغيرة ،أحست ميساء بسعادة لم تعرفها من قبل، فكل شيئ هنا جميل ورائع ،والولد وأهله يعاملونها بحبّ ،وقلوبهم صافية ليس فيها حقد أو غدر ،ليس مثل القصر الذي تعيش فيه، ولا أحد منهم يعلم أنّها بنت السّلطان ...
،في المساء إنصرفت الفتاة ،ولمّا سألها الحرس إن وجدت شيئا، أخبرتهم أنّ اللّص ليس من هذه القرية .كانت ميساء تحسّ بالتّعب حين وصلت إلى القصر،فدخلت غرفتها، وأرادت النّوم ،لكنّها بقيت طول الليل ساهرة تفكرّ في ذلك الولد سعد ،فلقد أعجبها ،وأحسّت من هيئته أنّ له سرّا، فهو ليس كبقيّة القرويّين، والأكثر من ذلك فهو وسيم، وضحكته دائما على وجهه ،وتساءلت :هل هو الحبّ ؟ فلقد ذهبت إلى اللّص لتأسره فأسر قلبها . بعد أيّام لاحظت الملكة أنّ إبنتها كثيرة الشّرود لدرجة أنّها لا تنتبه لما حولها، وحين تجلس للطعام تظلّ الملعقة في يدها دون أن تأكل شيئا ،فسألتها :هل أنت مريضة ؟ أجابتها :لا يا أمّي!!! ولمّا سألت الطبيب، قال لها :إنها مكتئبة، ويجب أن تروّح عن نفسها قليلا ،فركبت الأميرة عربتها مع وصيفتها ياسمينة، وطلبت من الحارس ان يقودها ناحية قرية سعد، وبعد مسافة طويلة وصلوا. قالت ميساء للوصيفة :إسمعي ،سأغيّر ملابسي معك !!! أرادت الفتاة أن تسألها أين ستذهب بمفردها، لكن الأميرة طلبت منها أن يبقى الأمر سرّا بينهما ،وألا تقلق عليها .
رأى الحارس الوصيفة متّجهة للقرية ،فظنّ أنّ مولاتها أرسلتها لتشتري لها شيئا، أمّا ميساء فضحكت لأنّها تخلّصت من ذلك الحارس البغيض الذي كلفته أمّها بمراقبتها ، ومنعها من التّجول وحدها ،حين وصلت الأميرة إلى باب الدّار، خرجت نوسة تجري، وطلبت منها أن تجيئ للعب معها ،وجاء الصّبيان للتّرحيب بها أما هي فأخذت تلتفت حولها لعلها ترى سعد أو الحدأة سليمة ،لكن أمّه قالت لها أنّه خرج للسّوق مع أبيه، ولن يتأخّر في الرّجوع بقيت الأميرة بصحبة الحيوانات، وقد أعجبها بلبل أخضر اللون كان يأتي للأكل من يدها ،أمّا نوسة فحكت لها عن الرّجال الذين يجمعون الضّرائب وكيف أخذوا عنزتها ،وحتى دجاجات أمّها، لكن أخاها سعد اشترى لها عشرة عنزات ،وهم يخرجون للرّعي وحدهم ،ويرجعون في المساء .مسحت الأميرة دمعة نزلت على خدّها، فقد حدّثتها البنيّة عن كرم أخيها ،وكيف ساعد كثيرا من الجيران الذين سلبهم السّلطان كلّ ما عندهم ،حتى الدّقيق الذين يأكلونه .قالت الفتاة في نفسها :لقد صدق إحساسي، فلم يكن سعد يسرق عن طمع ،فقد كان يردّ لأهل القرية ما يأخذه أبوها منهم ڠصبا ،وهذا ما لا تقبله نفسها ،لمّا جاء الولد، ورآها جالسة في الحديقة، فرح بها ،وأحسّت ميساء أنّه يحبها ،ويشتاق إليها، لكنها كانت مضطرّة للذّهاب ،ووعدته بالمجيئ مرة أخرى ،ثم جرت إلى العربة فوجدت الحارس يسبّ ويلعن، فقالت له: لم أجد الحلوى التي طلبتها مني مولاتي، ولقد حفيت قدماي وأنا أدور من دكّان إلى آخر.
لمّا رجعت الأميرة كانت تبدو أحسن حالا ،فقالت لها أمّها :أخرجي من حين لآخر إذا كان هذا يسلّيك ،أجابتها: نعم يا أمّي، فإنّ رؤية المروج والغابات تجعلني أحسّ بالرّاحة ،هذا ما كان من أمر ميساء، أمّا سعد فيجهل أنّه يواجه مشكلة كبيرة ،فالسّاحرة التي أطلقها كانت تعرف سرّ الأعشاب ، ،فذهبت إلى الجبل وصنعت مراهم ،وأدوية ،وأخذت تعالج نفسها حتى شفيت من الجرب ، واندملت چراحها ،ورجع صفاء وجهها ،وقدرتها على الكلام، لكنّها ظلت عوراء ،فقالت في نفسها: سأقبض على إبن الصّياد ،وأفقأ عينه مثلما فعل بي ،ثم قصدت السّلطان، وطلبت رؤيته ،فأرسل عبدا ليسألها عن حاجتها، فدفعته من أمامها ،ودخلت المجلس، فخاف الرّجل، وقال :إبتعدي عنّي ،فلا أريد أن أصاب بالجرب !!! أرته السّاحرة يديها ،وقالت: لا تقلق يا مولاي ، فسحري قويّ ،وكما ترى، فأنا أسمع وأتكلم، وجلدي أصفى من اللبن .
أطلّ عليها السّلطان ،وتعجّب منها، فهي تبدو جميلة ،و أصغر سنّا ،فأجلسها قربه ،وسألها إن كانت تعلم شيئا عن اللص ؟ فأجابته :نعم، وسأدلّك عليه بشرط أن تصبح دار أبيه وحديقته المليئة بالحيوانات ملكا لي ،أجابها السّلطان: موافق ،على كلّ حال فسينزل اللص وأهله ضيوفا على سجني ،ومن يدخله لا يخرج أبدا ،قالت السّاحرة: أريد أيضا أن أثأر لعيني العوراء !!! ردّ عليها : قبل أن يدخل السّجن، سأسلّمه لك لتفقئين عينيه الإثنين عوضا عن واحدة ..
في الصّباح لما فتح سعد وأباه الباب لينزلا إلى السوق ،وجدا السّاحرة في انتظارهما ومعها جنود السلطان ،فقالت للولد :هل تتذكرني أيّها اللئيم ؟ أكنت تعتقد أني سأتركك في حالك ؟ ثم جمع الجنود إخوته وأمه وأوثقوهم وهم يتصايحون، و رموهم في عربة ،وقادوهم إلى القصر ،أما الحدأة سليمة فاختبأت لكي لا تراها الساحرة ،ولما سار الموكب اتّبعته من بعيد ،في تلك الأثناء كانت الأميرة ميساء واقفة في شرفتها وفجأة رأت الحدأة فتعجّبت من وجودها في القصر ونادتها ،ولمّا التفتت إلى ميساء عرفتها فقد كانت نفس الفتاة التي رأتها في دار الصّياد مع سعد ،فدخلت من النافذة ،وجلست في حضڼ الأميرة فمسحت على رأسها برفق ،وسألتها أين سيّدك يا سليمة ؟ هل هو معك ؟ لكنّ الحدأة نظرت لها بحزن شديد ،أدركت ميساء أن سوءا حل بسعد، وبعد قليل سمعت جلبة وبكاء في ساحة القصر وعرفت، الصوت الذي يبكي إنها البنية نوسة فقامت ت إلى النافذة وفي الأسفل شاهدت سعد موثق اليدين، ومعه إخوته ووالديه ،والحراس يضربونهم ويسبّونهم ،وأرادت أن تصيح، لكنها وضعت يدها على فمها ،ثمّ جلست تفكّر كيف علموا بأمره ، ثم ذهبت لأبيها فوجدته يضحك مع السّاحرة التي صارت في أحسن حال بفضل ما صنعته من أدوية ،تظاهرت ميساء بالفرحة للقبض على اللّص ،وقالت لأبيها أعتقد أنك راضي الآن فقد قبضت على اللص لكن لماذا أهله ؟ أجاب كلهم يجب أن يعاقبون فلقد تواطؤوا معه ،وأكلوا مالي ،وكل ما يملكونه سيكون من نصيب الساحرة التي دلتني على مكانهم .
خرجت الأميرة، وقد ايقنت أن وضع سعد شديد الصّعوبة ،وقالت في نفسها :طيبته هي التي أوقعت به، فتلك اللعېنة ما كان لها أن تخرج من البئر حية. وفي الليل نزلت ميساء إلى السّجن الذي في قبو القصر وأعلمت السّجان أنها تود رؤية اللص، فتردد قليلا ثم أذن ،وأوصاها بعدم الاقتراب منه، ولما رآها سعد قام إليها ،وصاح :أنت إذن الأميرة !!! ولقد جئت لدار أبي للاحتيال علينا ،إبتعدي عنّي لا أريد رؤيتك !!! لكنّها ردت: أنت مخطئ ،لو كنت أريد أن أشي بك ،لفعلت ذلك من اليوم الأوّل الذي تقابلنا فيه، لكني علمت حكايتك ،وأحببت فضلك وشجاعتك ،أمّا من دلّ أبي عليك فهو السّاحرة ،ولقد أخطأت بإطلاق سبيلها، فأنت تجهل شدة مكرها ،أجابها : ليس من عادتي إيذاء أحد حتى ولو كان عدوّي، قالت الأميرة : اسمع ،أنا أعرف أنك لست من هذه البلاد ،فقل لي عن قصتك لعلي أقدر على مساعدتك ،أجاب سعد: أنا من الرّوم واسمي اسطيفانوس ،وأبي هو والي فلسطين ،ولقد أحبّ امرأة من العرب ،وتزوّجها سرّا ،ولمّا أنجبتني أمّي أخفتني لكي لا تفطن إمرأته الرّومية ،ولكن أحدهم وشى بي، فأخذني أحد العبيد المخلصين ،ورحل بي لجنوب سوريا عند قومها ،لكن في الطريق خرج علينا اللصوص،و قتلوا العبد، أمّا أنا فهربت، وكان هناك سوق كبير، فلم يفلحوا في العثور عليّ، حتى وجدني الصّياد .
قالت له : أكتب رسالة إلى أبيك ،وسأرسلها له ،أمّا أنت فلا تقل لهم عن مكان الذّهب ،فإنّ تلك السّاحرة تنوي على الإنتقام منك ،قال لها :لن تصل الرسالة في الوقت المناسب، أجابته :ليس إذا حملتها الحدأة ، وسأرسلها الليلة، ثم أتته بقرطاس ،وقلم فكتب بضعة أسطر باليونانية ،وما أن خرجت ميساء حتى ربطت الرسالة على ظهر الحدأة، وقالت لها إذهبي إلى قصر والي فلسطين حيث توجد القبة المذهبة، هل فهمت ؟ حركت سليمة ،رأسها وطارت في إتجاه الجنوب ،وهي تعرف أن كل لحظة تربحها من شأنها إنقاذ سعد من السّاحرة .نفّذ الولد نصيحة ميساء، وأخذ يماطل حول مكان الذّهب ،حتى نفذ صبر السّلطان ،وقال له :أمامك يوم واحد ،وإلا جلدت واحد من إخوتك حتى ينسلخ جلده !!!في الغد جائوا إليه، فقال في نفسه سأقول لهم عن مكان الذهب، وأنا أفضّل أن يعذبوني أنا ،ويتركوا إخوتي .حين علم السّلطان أن الذّهب داخل حفرة وسط الحديقة ،قال للساحرة دونك اللص فانتقمي منه كما تريدين ،وبينما كانت تلك المرأة تسخّن سيخا في الجمر لټحرق به سعد، وصلت رسالة إلى السلطان، ولمّا قرأها جرى للسجن، وأمرها بالتوقف ،فقالت له ،ويحك !!! واتفاقنا؟ أجابها :لقد إنتهى ،فتميّزت من الغيظ ،وأرادت ضړب السلطان بالسّيخ ،فأمسك بها الحرس ،وقال لهم أخرجوا سعد وعائلته ،وضعوها مكانهم .
وبعد قليل بدأت طليعة فرسان الرّوم تقترب من القصر، ثمّ ترجّل الوالي عن فرسه ،وكان في إسقباله السلطان ومعه سعد والأميرة ميساء ،فحضن الوالي إبنه ،وسأله عن حاله، فحكى له عن كلّ ما حصل، وكان أبوه يسمع ،ويتعجّب ،ثم قال الولد لأبيه: أريدك أن تخطب لي الأميرة ،فردّ عليه :لن تجد أحلى منها وفوق ذلك فهي تحبّك ،وفرح أبو ميساء لمّا سمع بالمهر الذي سيدفعه والي فلسطين له ،وفي تلك اللحظة دخلت الحدأة سليمة ،وجلست في حضڼ الأميرة ،فقال لها سعد: وأنا أيتها اللئيمة ؟ فأجابته: إبحث عن واحدة أخرى، فمن الآن صديقتي هي ميساء!!! وتزوّج الشابان ،وعاشا في سعدة ،أما الصياد فصار غنيا ،وبفضله رجعت الغابة أجمل مما كانت عليه ،وأصبح السلطان من أصدقائه، ويأتي هناك للإستجمام ،ولم يعد يأخذ سوى ضريبة صغيرة على الرّعية ،فزرع الفلاحون الأراضي، وكثر الخير في البلاد، وكلّ ذلك بفضل قصّة حبّ بين أميرة وولد فقير ،ومن قال إن الحبّ ليس كل شيئ ؟
...
إنتهت